الحب والمسافات الطويلة : بعيدا عن العين، بعيدا عن القلب ؟

يعيش بعض الأزواج حياتهم بطريقة غريبة بعض الشيء، بطريقة يمكن وصفها بالشاذة، فهم لا يرون بعضهم البعض بصفة يومية، يتواصلون فقط عبر الهاتف أو الانترنت، وينتظرون بلهفة لحظة اللقاء… فكيف يمكن أن يعيش الطرفان عندما يكون كلاهما بعيدا عن الآخر، في مدينة أخرى أو ربما في بلد آخر؟

ككل جمعة، يستقل خليل القطار المتوجه الى مراكش، ليعانق زوجته السعدية وأطفاله الأربعة. فرحة عارمة تغمر قلب خليل وعائلته الصغيرة، مما يعطي نهاية الأسبوع طعما مميزا وخاصا.
لأسباب مادية وأحيانا شخصية، يجد بعض الأزواج أنفسهم مجبرين على العيش بعيدا عن بعضهما البعض، فإذا كان البعض يرى بأنه من المستحيل الحديث عن موضوع العيش بعيدا عن نصفه الآخر، يجد البعض الآخر نفسه مرغما على قبول هذا الوضع.

«رغم أننا اتخذنا هذا القرار، إلا أنني نادم عليه».

خليل 46 سنة، مدير إعلاميات، والسعدية 39 سنة، مسؤولة إعلاميات. متزوجان منذ 14 سنة ولديهما أربعة أطفال.

لم تتحمل زوجتي العيش في مدينة الدار البيضاء، فانتقلت للعيش في مراكش التي ننحدر منها رفقة أطفالي الأربعة، بناء على طلب للانتقال تقدمت به الى المؤسسة التي تشغل فيها.
وهكذا أصبحت كل جمعة أستقل القطار للسفر الى مراكش على أن أعود عشية الأحد الى الدار البيضاء. وجدت الوضع صعبا، خصوصا وأن زوجتي أصبحت مضطرة لتحمل مسؤولية اطفال يتراوح سنهم ما بين 8 و 12 سنوات لوحدها.
كان يجب أن أبدأ بالبحث عن عمل بمراكش ثم بعد ذلك ننتقل جميعا للعيش معا. ومالم أستطع تحمله، خصوصا في البداية هو الوحدة، ففجأة جدت نفسي وحيدا وسط بيت كبير.
بالنسبة لزوجتي كان الامرمؤلما، خصوصا وأن حالتها الصحية ليست مستقرة، فمباشرة بعد ولادتها الأخيرة، أصبحت تشكو من عدم انتظام دقات القلب الامر الذي ربطه طبيبها المعالج بالارهاق والقلق والتوتر، وعند استقرارها في مراكش تفاقمت حالتها الصحية، وانا جد قلق عليها، لهذا أعمل كل ما في وسعي لمساعدتها عندما أسافر عندهم نهاية كل أسبوع. أحاول مثلا أن أفسّح أطفالي لأنهم أيضا في حاجة ماسة الى التحرر من الروتين الأسبوعي، لكن رغم كل هذا، لم نتمكن من الاستغلال الكلي لهذه اللحظات في الجو الأسري.
وبسبب التعب والقلق، فإن حياة البعد لها تأثير سلبي على الاطفال، الذين يصبحون أكثر حماسة وحركية، مما يقلق راحة زوجتي التي تضطر الى ان تدير المشاحنات باستمرار.
نحمد الله أن علاقتنا قوية ومتينة، كما أننا نعلم أن هذه الوضعية لن تدوم طويلا، وقد اتفقنا أن نصبر حتى بداية الدخول المدرسي المقبل لنجد حلا جذريا لوضعنا.»

«ينتهي بنا الأمر الى أن نعتاد على هذا الوضع».
«أحيانا وبفعل اعتيادنا على وضع ما نصبح قابلين له».
الخروج مع الأصدقاء، هي لحظات ليست فقط للترويح عن النفس، وإنما للتخفيف من معاناة أحد الطرفين من ابتعاده عن شريك حياته لظروف قاهرة.
بالنسبة للأمهات، اللواتي يتكفلن برعاية الأطفال، ويتحملن كل ما يتطلبه البيت من مستلزمات، يمكن أن ينتهي بهم الأمر الى الدخول في حالة اكتئاب عند غياب مساندة ودعم الزوج. فذلك يشعرها بالضغط، لانها تلعب في نفس الوقت دور الأم الحاضنة، ودور المربية بالاضافة الى المسؤولية خارج البيت. كل هذه المسؤوليات الملقاة على عاتقها تشعرها بالضغط الذي يمكن أن يقود الى الاكتئاب. هؤلاء الأمهات هن الأجذر لاختيارهن للقب «ملكات الخدمات اللوجيستيكية» للعام.يظل الأزواج يقومون بمسؤولياتهم الكاملة رغم طول المسافات الفاصلة بينهم.
من جهته، فالرجل يعاني هو الآخر من هذه الوضعية غير الطبيعية، فهو بالاضافة الى انهماكه في العمل لتوفير لقمة العيش، يجد نفسه وحيدا، ومنعزلا، فإذا كانت الزوجة تعاني من ثقل المسؤولية الملقاة على عاتقها، فإن الرجل يشعر بالوحدة وبالعزلة وما بين العمل ومابين افتقاده لدفئ الاسرة.
الاطفال هم أيضا يعانون من هذه الوضعية غير الطبيعية التي تعيشها الأسرة في ظل غياب الأب لأسباب مادية أو غيرها، ولعب الأم لدور الأم والأب في نفس الوقت. فغياب الأب يمكن أن يخلق عند الاطفال نوعا من عدم لمسهم لسلطة الأب.
بالنسبة لأمل شباش، الأخصائية في الأمراض النفسية والجنسية، «دور الأم في حالة عيشها هي والأبناء بعيدا عن الأب، أن تعزز وترسخ سلطة الأب عندهم، فمسألة القرب أو البعد ليست هي بالضرورة من يأثر على قيمة الدور التربوي الذي يلعبه الأب داخل الأسرة، فالعلاقة يجب أن تظل واقعية، كاملة، مليئة بالعطف، الانصات، وبالتبادل الفكري والعاطفي. فعلاقة الأب الذي يعيش بعيدا عن أسرته، يجب ان تظل مبنية على الاحترام والترابط والمحبة والود كما لو أنه يعيش بينهم.

الرابح الأكبر هنا هو الصبر

عند اللقاء، يستمتع الزوجان أكثر باللحظات الحميمية التي طال انتظارها، حتى يظهر كل منها للآخر، بأن البعد لم يغير من احساسهما ومن شعورهما باحتياج كل منهما للآخر، فيمكن أن يبرهن ذلك على مدى عمق العلاقة والمحبة التي تربط بينهما، وهذه اللحظات المنتظرة تصبح مقدسة لديهما، وهذه المشاعر خلال اللحظات الحميمية هي من تقوي العلاقة بين الطرفين، وهي من تعمق وتخلق الثقة بينهما، فتقضي على كل احساس بالغيرة الذي من شأنه أن يؤزم العلاقة.
تضيف أمل شباش: «طبيعي جدا، أن يشعر الشريك بالخوف، من أن يسرق أحدهم مكانه في قلب من يحب، خصوصا وأنه ليس بقربه دائما، وسواء أكان هذا الاعتقاد صحيحا أم خاطئا، إلا أن هامش المغريات يكون أكبر».
وإذا كانت لحظات الشك تبدو مشروعة جدا في ظل الظروف التي يعيشها الزوجان البعيدان عن بعضهما البعض، فإن الحب يظل هنا ويذكر دائما، فيما يظل الزواج رابطا مقدسا.
من ناحية أخرى، فالنضج يلعب دورا مهما في إنجاح هذه المرحلة من العمر، التي ستنهي سواء طال العمر أم قصر. وفي انتظار ذلك لا يسعنا إلا أن نحيي الثورة التكنولوجية وتطور وسائل الاتصال، التي أصبحت تساعد الزوجين على التواصل وتعويض الغياب.

«الشروط الأساسية تتمثل في الالتزام المتبادل، الصدق وفي الثقة التي لايزعزعها شيء»

حوار مع الدكتورة أمل شباش، أخصائية الأمراض النفسية والجنسية.

هل العيش بعيدا عن الشريك له انعكاس إجيابي على العلاقة؟

في كل وضع هناك الحسن وهناك الأقل حسنا، وهناك من ينظر الى النصف الفارغ من الكأس وهناك من ينظر الى النصف المليء منه.
عندما يكون هناك شريكان لا يعيشان تحت سقف واحد، أعتقد أنه لن تكون هناك الكثير من الفرص للمشاحنات أو سوء التفاهم، أو الخصام، أو المواجهات، بما أن الهدف في هذه الحالة يكون هو اللقاء و استغلال الاوقات التي يقضيانها معا بكل حميمية ومحبة بعيدا عن المشاحنات التي لا يكون لها مكان بينهما.
ففرحة اللقاء والقرب وعيش لحظات حميمية لتخليد الكثير من الذكريات الرائعة، يجعلهم يتحملون الغياب والبعد.

كيف يمكن تعزيز العلاقة عندما يكون الزوج بعيدا؟

أعتقد أنه يجب تقوية العلاقة التي تربط الزوجين، وتعميقها، وتغذيتها، حتى يتمكنا من مواجهة كل الصعاب التي من الممكن ان تعترض طريقهما. والبعد هو أحد هذه التحديات التي يجب تجاوزها للحفاظ على حياتهما مع بعضهما البعض، وأهم هذه الشروط الأساسية تتجلى في الالتزام المتبادل، الثقة، الصدق والاخلاص، الحضور الافتراضي اليومي، المشاركة في أخذ القرارات المهمة، خلق المشاريع معا، يكون هدفهما هو اللقاء في أقرب وقت ممكن ويعيشان على انتظار هذه اللحظة، ليعيشوا لحظات ممتعة سواء مع بعضهما البعض أو مع أطفالهما أيضا.

ماهي المخاطر التي يمكن أن يواجهها الزوجان عندما يعيش كلاهما بعيدا عن الآخر؟

أهم المشاكل التي من الممكن أن يواجهها الزوجان، هي الاحساس بالوحدة والخوف من فقدان الشريك، فالشريك يشعر بالحزن لاحساسه بالوحدة مع أنه متزوجا، ثم الغيرة.
مرة أخرى، هناك الإيجابي وهناك السلبي أيضا، فحياتهما الجنسية ستكون دائما متجددة، فتعطش كلاهما للآخر، والسعادة التي يجدانها بقربهما من بعضهما البعض، فيعيدان اكتشاف بعضهما البعض عند كل لقاء حميمي، خصوصا وأنهما لم يلتقيا منذ مدة.
بالمقابل، يمكن أن يطرح مشكل اختلاف أو تعارض الاحتياجات الجنسية، أو عدم فهم أحدهما للآخر بالشكل الكافي الذي يجعل من اللقاء الحميمي لقاء ممتعا، ويمكن في هذه الحالة أن تغيب المتعة، كما أنه من الممكن أن يطرح مشكل عند رغبتهما إنجاب طفل. لأن لقاءهما يجب أن يصادف فترة الاباضة، مع وجود الرغبة وأن يكون يكون كل منهما متاح للآخر. وهذا غالبا ما يكون معقدا.

«هناك بعض الظروف التي نحتاج فيها لأن نكون محاطين بأشخاص نثق بهم.»

نورا 38سنة محللة مالية، وجليل 40 سنة نائب مدير إحدى الشركات، متزوجان منذ 15 سنة ولديهما ثلاث أطفال.
كنا نعيش بكندا، واضطر زوجي للعودة الى المغرب لأسباب تتعلق بعمله، وبقيت مع أطفالي هناك لمدة سبع سنوات. مرت الشهور الأولى ببطء شديد، وعانيت خلالها الأمرين، فقد كنت الأب والأم لأطفالي، عانيت من الوحدة، من ألم البعد والفراق، لكني شيئا فشيئا تعودت على الوضع خصوصا أني كنت أعلم أنه وضع مؤقت ولن يدوم أبد الحياة، وكنا ننظر للظرف بمنظور ايجابي، حتى لا تتأزم نفسيتنا.
خلال هذه الفترة، لعبت أسرتي التي تعيش ايضا في منتريال دورا مهما في دعمي ومساندتي وكذلك أصدقائي، لأنه في ظروف كهذه نحتاج كثيرا بأن نكون محاطين بأشخاص نثق ونعتمد عليهم.
على الرغم من البعد عن زوجي، لم يكن هناك وجود للغيرة، الثقة كانت متبادلة.
أما بالنسبة لأطفالي فقد كنت الأب والأم في نفس الوقت، صحيح أنني مررت بأوقات عصيبة، إلا أنني كنت أعتبر نفسي الصديقة الكبيرة لأطفالي، والحمد لله تمكنا من التغلب على الوضع وتجاوزه، فالاب كان حاضرا دائما، كان يكلمنا ثلاث الى خمس مرات في اليوم، وكنا نتواصل ايضا عبر الانترنت.
كم كنا نشعر بالسعادة عندما يأتي جليل ليقضي معنا أسبوعا كل ثلاثة أشهر ، بالنسبة للأطفال فقد كان حضوره عيدا بالنسبة لهم، وكنا نحرص على أن نقضي أحلى الاوقات، نستغل كل لحظة يقضيها معنا رغم ان الاسبوع كان يمر كسرعة البرق.
وبالنهاية اضطررنا لأن نأخذ قرارا حتى نبقى مجتمعين مع بعضنا البعض، لان اطفالي كانوا يحتاجون لأبيهم ولأمهم في نفس الوقت، وبالفعل، عدنا الى المغرب لنعيش كلنا ضمن أسرة واحدة».

«الأصعب في هذه الوضعية، هو ادارة تقلبات الحياة اليومية.»

أمل 39 سنة، مهندسة، وتوفيق 46 سنة مدير شركة، متزوجان منذ 12 سنة ولديهما ثلاثة أطفال.

بعد دراستي في الخارج، استقررت في الدار البيضاء لأسباب تتعلق بعملي، زوجي يدير شركة عائلية بفاس، وكان يطمح لأن يجد من ينوب عنه ليستقر هو أيضا معنا في الدار البيضاء، لكن لسوء الحظ لم يجد من ينوب عنه، واضطررنا للعيش بعيدا عن بعضنا البعض لمدة تزيد عن 13 سنة، خصوصا وأن الاستقرار في الدار اليبضاء ناسبني كثيرا.. وهكذا بنينا عشنا الزوجي المبني على البعد.
يأتي توفيق لزيارتنا مساء كل خميس، ثم يعود الى فاس صباح يوم الاثنين.
عندما لا يكون هناك أطفال، فالعيش بعيدا عن الشريك يكون ممتعا، لكن مع وجود الاطفال خصوصا ثلاثة يصبح الأمر صعبا، أحاول أن أكون أما قوية ومسؤولة، لكن عند نهاية الأسبوع أترك المهمة لتوفيق فهو الأب ويستطيع أن يتقن الدور أكثر مني فهو رجل، أتحرر قليلا من المسؤولية في حضوره، أما الأصعب في هذه الوضعية هو ادارة تقلبات الحياة اليومية و الامور غير المتوقعة..
احاول جاهدة ألا أسقط في المشاكل اللوجيستيكية، عندما يتراكم علينا الأمر نشعر بأن علينا أن نتحمل المسؤولية كلها وبأن ندير ونسير كل شيء يتعلق بنا وبأطفالنا.
ليس لدي أهل بمدينة الدار البيضاء، وهذا بصراحة يشعرني أكثر بثقل المسؤولية التي أتحملها. كما أنني أحمد لله أنه لدي مجموعة من الاصدقاء الذين يساعدوني على تحمل أعباء المسؤولية في ظل غياب زوجي.
عشنا دوما بعيدين عن بعضنا البعض، ولا وجود للغيرة في علاقتنا، لانها علاقة مبنية على الثقة المتبادلة، كما أننا نحاول بين الحين والآخر ان نقضي بعض الوقت معا بعيدا عن الاطفال وعن كل اسباب التوتر، تقريبا مرة كل شهر ونصف كما أنه خلال العطل، نسافر أسبوعان فقط انا وهو.

المصدر: F.A

شارك هذه المقالة، اختر منصتك !